رأي محكمة العدل- تبعات احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية

في بادرة تاريخية فارقة، أصدرت محكمة العدل الدولية، هذا الشهر، فتوى استشارية ذات أهمية بالغة، تتناول التداعيات القانونية المترتبة على السياسات والممارسات الإسرائيلية المطبقة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما يشمل مدينة القدس الشرقية. جاء هذا الرأي القانوني استجابةً لطلب رسمي تقدمت به الجمعية العامة للأمم المتحدة في الثلاثين من شهر ديسمبر لعام 2022. وقد أيَّد هذا القرار 12 قاضيًا، بينما عارضه 3 قضاة.
وقد شهدت أروقة المحكمة جلسات استماع علنية موسَّعة بين التاسع عشر والسادس والعشرين من شهر فبراير، شاركت فيها 52 دولة و 3 منظمات دولية مرموقة. وعلى الرغم من تغيُّب إسرائيل عن هذه الجلسات، فقد قدمت مذكرة خطية مفصلة تحث المحكمة على عدم إصدار أي رأي بشأن هذه القضية الحساسة.
وقد وصفت الأوساط الحقوقية والقانونية رأي محكمة العدل الدولية بأنه تاريخي لأسباب عدة:
- وحدة الأراضي الفلسطينية المحتلة: أكدت المحكمة بصورة قاطعة أن جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 تشكل وحدة جغرافية واحدة غير قابلة للتجزئة، وتخضع للسيادة الفلسطينية الكاملة، وذلك خلافًا لادعاءات إسرائيل بشأن إعادة انتشارها من غزة عام 2005، أو ضمّها غير الشرعي للقدس.
- المركز القانوني لقطاع غزة: أوضحت المحكمة أن قطاع غزة يمثل جزءًا لا يتجزأ من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأنه لا يزال خاضعًا للاحتلال الإسرائيلي نظرًا للسيطرة الفعلية التي تمارسها إسرائيل عليه، وذلك وفقًا لقواعد لاهاي لعام 1907، وهو ما يفرض على إسرائيل التزامات قانونية صارمة باعتبارها قوة احتلال تجاه غزة وسكانها.
- التزامات إسرائيل: شددت المحكمة على ضرورة احترام إسرائيل لجميع معاهدات حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة منذ عام 1967، حيث تنطبق عليها جميع الاتفاقيات الدولية، بما فيها العهدان الدوليان لعام 1966، وذلك على الرغم من ادعائها بعدم انطباقها خارج أراضيها المعترف بها دوليًا.
- التعويض عن الأضرار: أقرت المحكمة بوجوب تقديم إسرائيل لتعويضات كاملة وعادلة عن جميع الأضرار التي تسببت فيها نتيجة احتلالها للأراضي الفلسطينية.
- استمرارية الاحتلال: أشارت المحكمة في حكمها إلى أن الاحتلال الإسرائيلي المستمر منذ 57 عامًا يمثل وضعًا مؤقتًا بطبيعته، ويجب ألا يستمر إلى أجل غير مسمى، وأن استدامة الاحتلال لا تغير من الوضع القانوني للأراضي المحتلة قيدًا أنملة.
- تقييم ممارسات الاحتلال: أكدت المحكمة أنها ستقوم بتقييم دقيق وشامل لجميع ممارسات وسياسات الاحتلال الإسرائيلي طويلة الأمد، بما في ذلك الاستيطان غير القانوني والسيطرة على الأراضي والموارد الطبيعية الفلسطينية.
- انتهاك حقوق الفلسطينيين: أكدت المحكمة أن استخدام إسرائيل للموارد الطبيعية الفلسطينية يشكل انتهاكًا صارخًا لحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، بالإضافة إلى سياسات الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية، والتفرقة العنصرية والفصل العنصري الممنهج في الأراضي المحتلة.
- جرائم المستوطنين: شددت المحكمة على أن مصادرة الأراضي وتخصيصها للاستيطان ونقل المستوطنين ونفي الفلسطينيين، يمثل انتهاكًا واضحًا للاتفاقية الرابعة لعام 1949، بجانب جرائم المستوطنين وتقاعس إسرائيل عن محاسبتهم.
- التبعات القانونية للسياسات الإسرائيلية: تتضمن تقييم ممارسات الاحتلال الإسرائيلي وتأثيرها على الوضع القانوني للأراضي المحتلة، والسياسات الرامية إلى تغيير التركيبة الديمغرافية لمدينة القدس.
- عدم شرعية الضمّ: أكدت المحكمة أن ضم إسرائيل للأراضي الفلسطينية المحتلة واستمرار سيطرتها عليها يتعارض بشكل قاطع مع القانون الدولي.
- التزامات إسرائيل الدولية: ألزمت المحكمة إسرائيل بإنهاء الاحتلال، ووقف جميع أنشطة الاستيطان والتمييز العنصري، وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل عام 1967، وتفكيك المستوطنات والجدار العازل، وإرجاع المهجّرين قسرًا منذ عام 1967.
- مسؤولية المجتمع الدولي: أكدت المحكمة مسؤولية مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة والمجتمع الدولي بأسره في تمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه غير القابل للتصرف في تقرير المصير، وعدم الاعتراف بأي إجراءات إسرائيلية أحادية الجانب منذ عام 1967، وشددت على ضرورة التزام إسرائيل التام باتفاقية جنيف الرابعة.
أهمية رأي المحكمة الاستشاري
إن أهمية النتائج التي خلصت إليها المحكمة في رأيها الاستشاري تتجاوز نطاق القضية المطروحة. فالمحكمة تعلن كلمة القانون في مجال يرفض فيه الكثيرون تطبيق أحكامه، على الرغم من وجود اتفاقيات قانونية معترف بها عالميًا. وبينما لا يمكن للمحكمة سن قوانين جديدة، فإنها قادرة على إلقاء الضوء على قواعد القانون الدولي الإنساني في ضوء الظروف المعاصرة، والتنبيه إلى النواقص التي تعتري هذا القانون.
ويرى البعض أن الجمعية العامة للأمم المتحدة قد تستخدم الرأي القانوني الصادر عن محكمة العدل الدولية لتقرير الوضع القانوني للأراضي الفلسطينية المحتلة. قد يكون هذا القرار بمثابة دليل للجمعية العامة، ولكنه ليس أداة لحل النزاع، حيث سبق لمحكمة العدل الدولية أن أشارت إلى أنها لن تعطي رأيًا في ظروف قد يعادل فيها هذا القرار حسم خلاف بين الدول.
طلب قانوني وليس سياسيًا
استنادًا إلى المادة 96 من ميثاق الأمم المتحدة والمادة 65 من النظام الأساسي للمحكمة، قررت الجمعية العامة أن تطلب من محكمة العدل الدولية إصدار رأي استشاري في السؤالين التاليين:
- ما هي التبعات القانونية الناشئة عن انتهاك إسرائيل المستمر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وعن احتلالها الطويل للأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 واستيطانها وضمها لها، بما في ذلك التدابير الرامية إلى تغيير التكوين الديموغرافي لمدينة القدس الشريف وطابعها ووضعها، وعن اعتمادها تشريعات وتدابير تمييزية في هذا الشأن؟
- كيف تؤثر ممارسات إسرائيل المذكورة في السؤال الأول على الوضع القانوني للاحتلال، وما هي التبعات القانونية لهذا الوضع على كافة الدول والأمم المتحدة؟
يُقصد بالاختصاص الإفتائي (الاستشاري) هو "قيام المحكمة بإبداء الرأي القانوني في شأن أي مشكلة قانونية يُطلب إليها إبداء الرأي فيها". فالمحكمة هنا لا تفصل في نزاع كما هو الحال في اختصاصها القضائي، بل تعبّر عن رأي بصدد مسألة تعدّدت فيها الآراء واختلفت. هذا الاختصاص في صميم عمل المنظمة، لأن طلب الفتوى يُبدَى بسبب اختلاف الرأي في شأن المشكلة المطروحة، ما يجعله شبيهًا بوجود نزاع بشأنها.
تجدر الإشارة إلى أن الفتوى الصادرة عن المحكمة يجب أن تتناول مسائل قانونية فقط، مع استبعاد المسائل ذات الطابع السياسي. وقد أكدت محكمة العدل الدولية هذا الأمر في فتواها الصادرة بتاريخ 13 يوليو/تموز 1954، حيث ذكرت أنه "إذا كانت المسألة غير قانونية، فليس للمحكمة سلطة تقديرية بصددها، وعليها أن ترفض إصدار الفتوى التي طُلبت منها".
وقد أثير هذا الجدل عند عرض قضية الجدار على المحكمة، حيث طعنت إسرائيل والولايات المتحدة، وتبعهما بعض الدول الأوروبية، في صلاحية محكمة العدل الدولية في البتّ بقضية الجدار، معتبرين أنها قضية سياسية وليست قانونية. وهذا يعني أنه إذا كانت قضية الجدار الفاصل قضية سياسية، فليس للمحكمة الحق في تقديم الرأي الاستشاري.
المكاسب القانونية
على الرغم من أن هذا القرار ليس ملزمًا قانونًا بحكم كونه رأيًا استشاريًا، إلا أنه يحمل تأثيرًا عميقًا على الساحة الدولية. فهو يعزز المواقف القانونية والسياسية الرافضة للاحتلال الإسرائيلي، ويزيد من الضغط على إسرائيل لإنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية. لا يجب النظر إلى المكاسب القانونية التي أتاحها قرار المحكمة من منظور قانوني ضيق فحسب، بل يجب اعتبارها أيضًا أداة للتحرك السياسي والدبلوماسي بهدف ضمان تطبيق القانون الدولي.
ولتعزيز هذه الحملة الدبلوماسية والسياسية، يجب تفعيل دور الإعلام الفلسطيني والعربي لفضح الممارسات العدوانية الإسرائيلية وجرائم الإبادة التي ترتكبها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني وممتلكاته. ومن المفيد أيضًا رفع دعاوى قضائية ضد إسرائيل من قبل أصحاب الأراضي التي يتم الاستيلاء عليها بفعل الجدار، أو التي يتم تجريفها أو هدمها، بمن فيهم المدنيون الذين استشهدوا جراء القصف ومحاولات الاغتيال، باعتبار ذلك إرهاب دولة منظم".